بسم الله الرحمن الرحيم وصلى وسلم وبارك على سيدنا محمد

وآله وصحبه وإخوانه وحزبه

الخوف من أهوال يوم القيامة

 
 

قال تعالى : (إنها لإحدى الكبر نذيرا للبشر)

قال الشاعر :

تذكر يوم تأتي الله فردا وقد نصبت موازين القضاء

تأليف : بن سالم با هشام

إعداد : فتيحة الشقراوي

ثانوية محمد الخامس للتعليم الأصيل خنيفــرة

لقد سمعنا الكثير من الخطب والمواعظ والتوجيهات، وذكرت لنا الكثير من الأمراض التي أصابتنا، وعين لنا الدواء الشافي الكافي الذي يمكن أن ينقذنا، ورغم ذلك لا تزال الأغلبية فينا على ما هي عليه.

فما السبب إذن ؟ هل نيأس من الخلق ونتهمهم بانعدام الخير فيهم ؟ أم نبحث عن الخلل ؟ أيها الأحباب الكرام اعلموا أننا لا نقلع عن جرائمنا وأخطائنا إلا إذا حصل عندنا اليقين بما ذكره الحق عز وجل وبلغه الرسول صلى الله عليه وسلم. فاليقين هو أول مقامات الدين، وهو عبارة عن قوة الإيمان بالله تعالى وباليوم الآخر والجنة والنار. وهذا اليقين بالضرورة يهيج الخوف من النار، والرجاء للجنة. والرجاء والخوف يقويان على الصبر. الصبر على المعاصي، والصبر على الطاعة، والصبر على المصائب. لأن الجنة حفت بالمكاره، فلا يصبر على تحملها إلا بقوة الرجاء، والنار حفت بالشهوات فلا يصبر على قمعها إلا بقوة الخوف.

أيها الأحباب الكرام إننا مازلنا لم نتيقن من خطورة ما ينتظرنا من سكرات الموت، وعقاب نكير ومنكر، ومن هول يوم القيامة، ومن تطاير الصحف، ومن نصب الميزان، ومن عقاب أبدي. إننا نخاف من البشر عندما نتيقن من ظلمهم وانتقامهم، في حين أن الشخص الذي أرهبه وأخافه قد يقف ابني الصغير أمامه ولا يهابه ولا يرهبه بل قد لا يعبأ به ولا يوليه عناية، بل يبقى منهمكا في لعبه. إن الصبي إذا كان في بيت، فدخلت عليه حية أو عقرب ربما لا يخاف منها، يمد يده إليها ليأخذها ويلعب بها، لكنه إذا رأى أباه قد خاف من الحية وهرب منها وهو يلاحظ أنه أقوى منه وأكبر، ورغم ذلك ترتعد فرائصه ويحاول الهرب منها، قام الصبي معه، وغلب عليه هو كذلك الخوف، ووافق أباه في الهرب. فخوف الأب عن بصيرة ومعرفة ويقين بصفة الحية وسمها وخاصيتها، وأما خوف الابن فبمجرد

التقليد، لأنه يحسن الظن بأبيه، ويعلم أنه لا يخاف إلا من سبب مخوف في نفسه. إذا عرفت هذا المثال يا عبد الله، ولم تتيقن من خطورة أهوال يوم القيامة، فثق في أفضل خلق الله. في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانظر إلى حاله كيف يكون لما تذكر الموت ويذكر القبر، وتذكر القيامة، ويذكر حشر الناس حفاة عراة، ويذكر تطاير الصحف، ويذكر دقة الصراط، ويذكر الميزان.

هل يشتد خوفه أم لا يبالي بهذه الأمور؟ لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير البكاء حتى إنه ليسمع له في الصلاة أزيز كأزيز المرجل. إذا كان الطاهر المطهر يخاف ويبكي وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر لأنه يعرف حقائق وأهوال يوم القيامة، فلماذا نحن آمنين مطمئنين، نأكل ملء شدقينا وننام ملء جفنينا، طامعين في رحمة الله دون عمل صالح، اعلموا أن الخوف من الله تعالى على مقامين. أحدهما : الخوف من عذابه، والثاني الخوف منه سبحانه. فأما الخوف منه فهو خوف العلماء وأرباب القلوب العارفين من صفاته ما يقتضي الهيبة والخوف والحذر، المطلعين على سر قوله تعالى من سورة آل عمران « ويحذركم الله نفسه» آية 30 و أما الخوف من عذابه فهو خوف عموم الخلق، وهو حاصل بأصل الإيمان بالجنة والنار، وكونهما جزاءين على الطاعة والمعصية. وضعف هذا الخوف بسبب الغفلة وبسبب ضعف الإيمان. وزوال الغفلة تكون بالتذكير والوعظ وملازمة الفكر في أهوال يوم القيامة وأصناف العذاب في الآخرة، كما تزول الغفلة أيضا بالنظر إلى الخائفين ومجالستهم، ومشاهدة أحوالهم، فإن فاتت المشاهدة فالسماع لا يخلو عن تأثير.

قال معاذ بن جبل رضي الله عنه : »إن المؤمن لا يسكن روعه حتى يترك جهنم وراءه«.

أيها الأحباب الكرام لقد طمست الماديات قلوبنا وحجبت بصائرنا، فأين عالم الغيب في كلامنا ومجالسنا؟ هذا العالم الغيبي الذي نحن مقبلون عليه سيكون مملوء بالعجائب، وسنفاجأ فيه بما لم يكن في الحسبان، وستجدون أموركم قد قلبت رأسا على عقب، وضاعت تلك الأسس التي عشنا عليها في الدنيا وتغيرت الموازين، فلا المال العريض ينفع بل يقول الإنسان (ما أغنى عني ماليه) سورة الحاقة آية 28، ولا الجاه ينفع بل يقول الإنسان : (هلك عني سطانيه) سورة الحاقة آية 29 ولا الجمال ينفع، ولا القوة تنفع. قال صلى الله عليه وسلم : "يأتي الرجل السمين العظيم يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة" إنه لا يبقى لكم إخواني أخواتي إلا ما قدمتموه من أعمال صالحة، وتوبة صادقة، وتقوى خاشعة، قال تعالى في سورة القارعة : «القارعة ما القارعة وما أدراك ما القارعة يوم يكون الناس كالفراش المبثوث وتكون الجبال كالعهن المنفوش، فأما من ثقلت موازينه، فهو في عيشة راضية، وأما من خفت موازينه، فأمه هاوية، وما أدراك ماهيه نار حامية».

لقد كان السلف الصالح رضي الله عنهم وأرضاهم يذكرون عالم الغيب وما يجري فيه، فتخشع قلوبهم، وتدمع عيونهم. روى أبو داود أن عائشة رضي الله عنها ذكرت النار فبكت، فقال لها الرسول صلى الله عليه وسلم : «ما يبكيك ؟ فقلت : ذكرت النار فبكيت، فهل تذكرون أهليكم يوم القيامة يا رسول الله ؟ فقال : أما في ثلاثة مواطن فلا يذكر أحد أحدا. عند الميزان حتى يعلم أيخف ميزانه أو يثقل، وعند الكتاب حين يقال هاؤم اقرءوا كتابيه حتى يعلم أين يقع كتابه أفي يمينه أم في شماله أم من وراء ظهره، وعند الصراط إذا وضع بين ظهري جهنم حتى يجوز ـ وفي رواية الحاكم وقال صحيح على شرطهما ـ وعند الصراط إذا وضع بين ظهري جهنم، حافتاه كلاليب كثيرة وحسك كثيرة يحبس الله بها من يشاء من خلقه حتى يعلم أينجو أم لا ».

فيا عبد الله، يا من يدقق موازين الدنيا خشية أن يضيع حقه. لا تغفل عن ميزان الآخرة الذي ستوزن فيه حسناتك وسيئاتك، ويزن أصغر شيء من الحسنات والسيئات فلا تحتقرها كما يزن أكبر شيء، بل يزن السموات والأرض لما روى الحاكم وقال صحيح على شرط مسلم، عن سلمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "يوضع الميزان يوم القيامة فلو دري (أي وزن) فيه السموات والأرض لوسعت. فتقول الملائكة : يارب لمن يزن هذا ؟ فيقول الله لمن شئت من خلقي. فيقولون : سبحانك ما عبدناك حق عيادتك". بل فكر يا عبد الله في الميزان وخطره، حين تكون الأعين شاخصة إلى لسانه، واعلم أنه لا ينجو من خطره إلا من حاسب نفسه في الدنيا، ووزن أعماله فيها بميزان الشرع، وتتبع أقواله وأفعاله وخطواته ولحظاته كما قال عمر رضي الله عنه " (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا).

زن يا عبد الله أعمالك بعد محاسبة نفسك، هل ظلمت أحدا ؟ هل تكلمت في أحد ؟ هل استهزأت بأحد ؟ هل هتكت عرض أحد ؟ هل أكلت حراما ؟ روى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها أن رجلا قعد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن لي مملوكين يكذبونني ويخوفنني ويعصونني وأشتمهم وأضربهم، كيف أنا منهم. قال : "إذا كان يوم القيامة يحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك، وعقابك إياهم، فإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم، كان كفافا، لا لك ولا عليك. وإن كان عقابك دون ذنوبهم كان فضلا لك، وإن كان عقابك فوق ذنوبهم اقتصى لهم منك الفضل". قال : فتنحى الرجل فجعل يبكي ويهتف. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما تقرأ كتاب الله تعالى (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة. فلا تظلم نفس شيئا، وإن كان مثقال حبة من خرذل أتينا بها وكفى بنا حاسبين). سورة الأنبياء الآية 47.

قال الرجل : "والله يا رسول الله ما أجد لي ولهؤلاء خيرا من مفارقتهم. أشهدك أنهم كلهم أحرارا". إذا عرفت هذا يا عبد الله فاسمع إلى وصية سفيان الثوري رحمة الله عليه إذ قال : "إنك أن تلقى الله عز وجل بسبعين ذنبا فيما بينك وبينه، أهون عليك من أن تلقاه بذنب واحد فيما بينك وبين العباد". قال القرطبي رحمه الله تعليقا على ذلك : وهذا صحيح، لأن الله غني كريم، وابن آدم فقير مسكين محتاج في ذلك اليوم إلى حسنة يدفع بها سيئته، إن كانت عليه، حتى ترجح ميزانه فيكثر خيره وثوابه. ومن الأعمال التي تثقل الميزان، ما ذكره أبو نعيم بإسناده من حديث مالك بن أنس،والعمري عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قضى لأخيه حاجة وكنت واقفا عند ميزانه فإن رجح وإلا شفعت له ". وكذلك الإكثار من الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم فإنها تثقل الميزان، والإكثار من سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم، فإنهما ثقيلتان في الميزان. فيا عبد الله أسرع بالتوبة إلى الله وخفه و :

تذكر يوم تأتي الله فردا وقد نصبت موازين القضاء

وهتكت الستور عن المعاصي وجاء الذنب منكشف الغطاء