سلسلة شعب الإيمان

الخصلة الأولى

الصحبة والجماعة

الشعبة الرابعة

التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في خلقه

قواعد منهاجية  

كان خلقه صلى الله عليه وسلم القران، يعطي كل ذي حق حقه، ثم يفيض خيرا ورحمة، على العالمين. ينبغي تقصي هديه صلى الله عليه وسلم في كتب الشمائل، واتباع سنته صلى الله عليه وسلم في عظائم الأمور ودقائقها. فالسنة الشريفة وحدها كفيلة أن توحد سلوكنا، وتجمعنا على نموذج واحد من الحركات والسكنات، في العبادات والأخلاق، في السمت وعلو الهمة. فانه لا وصول إلى الله عز وجل إلا عن طريق رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا حقيقة إلا حقيقته، ولا شريعة إلا شريعته، ولا عقيدة إلا عقيدته،ولا سبيل إلى جنة الله ورضوانه ومعرفته إلا باتباعه ظاهرا وباطنا. فذلك كله برهان عن صدقنا في اتباعه، إذ فاتتنا صحبته.    المنهاج النبوي ص:139

الأستاذ عبد السلام ياسين

الأستاذ بن سالم باهشام

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه وإحوانه وحزبه

أيها الأحباب الكرام، إننا ونحن في ذكرى الإسراء والمعراج التي ذكرها الحق عز وجل في سورة الإسراء، وفي سورة  النجم وجاءت السنة المطهرة فكشفت النقاب عن تفاصيل هاتين الرحلتين في أحاديث وردت بأسانيد متنوعة تقرر كلها هذه المعجزة وتؤكدها. هذه المعجزة التي وقعت في شهر رجب من مثل هذا الشهر الذي نحن فيه. هذه المعجزة التي كانت بالروح والجسد والتي تعتبر بحق رسم حياة للإنسان. إذ رأى عليه الصلاة والسلام فيها من آيات ربه ما رأى دون أن يزيغ البصر أويطغى. في هذه الذكرى نرى الناس بين باك على مسرى رسول الله r الذي هوبيت المقدس، والذي هوالآن تحت سيطرة أحفاد القردة والخنازير من اليهود، وبين متحسر على ما ضاع منا، ومتحير في سبب شتات المسلمين، وذهاب ريحهم وقاعد شاك على تخلفهم، فما السبيل إلى استرجاع ما ضاع منا والعودة إلى عزتنا؟

عباد الله:

فِلِسْطِينُ ضَاعَتْ يَوْمَ ضَاعَتْ عَقِيدَة                           وَبَاتَ فسادُ الْحَالِ أقبح مُقتنى

أيجحد دين أورث العرب سؤددا                               وينقض ما شادَ النبيُّ وَمَا بَنَى؟!

ليرضى علينا الغرب حينا ويحتفي                            بنا الشرق أحيانا … ونفقد ذاتنا
وما زادنا هذا التــذبذب عِزة                                    ولكن حصدنا دونه الشوك والْعَنَا

أيها الأحباب الكرام، إننا إذا استقرأنا التاريخ الذي يكشف صحة النظريات أوزيفها ويزيد المؤمن يقينا في حكمة الله في خلقه نجد حضارات قد أقيمت على وجه الأرض ثم أبيدت، ولقد أوصلها البعض إلى إحدى وعشرين حضارة، وما لم يعرف منها ربما يكون أكثر. فما هي عناصر القوة في هذه الحضارات؟ وما مكامن الضعف فيها؟ لقد بحث الدارسون والمؤرخون فتوصلوا إلى أن قوة الأمة وإمكان استمرارها في أداء دورها الحضاري هومن قوة أخلاقها وليس من كثرة نابغيها، ووفرة منتجاتها، بل الملاحظ أن نجم الأمة الحضاري يغيب، ومكانتها تنهار، وهي أوفر ما تكون إنتاجا وعطاء في عالم المادة. وقد تضم نوابغ وعلماء لأن الذكاء يساعد على البحث في أسرار الطبيعة والانتفاع بقواها، ولكن الأخلاق هي التي تحكم هذه القوة، وتعلم السير في الحياة بنجاح، إن هذه الحقيقة لم ينكرها حتى الكفار فضلا عن المؤمنين. فهذا أحدهم يسمى (غوستاف لوبون)، يقول في كتابه المترجم "الأسس النفسية لتطور الأمم" وهومن كبار الباحثين في تاريخ الحضارات الإنسانية:

"ونحن إذا بحثنا في الأسباب التي أدت بالتتابع إلى انهيار الأمم، وهي التي حفظ لنا التاريخ خبرها كالفرس والرومان وغيرهم، وجدنا أن العامل الأساسي في سقوطها هوتغير مزاجها النفسي، تغيرا نشأ عن انحطاط أخلاقها، ولست أرى أمة واحدة زالت بفعل انحطاط ذكائها).

عباد الله، إن الأمم والشعوب مهما تباعدت وتباينت فإنها تتفق على كثير من الحقائق الأخلاقية، وهذا دليل على أن التفكير الأخلاقي قديم مصاحب للإنسان سواء كان في حضارة راقية أم حياة بدائية بسيطة، ونتيجة هذا التفكير الأخلاقي نشأ ما سمي "بعلم الأخلاق" وعرف بأنه "علم بالفضائل، وكيفية اقتنائها للتحلي بها وبالرذائل وكيفية توقيها والتخلي عنها، إلا أن الأمم تختلف في دوافع هذه الأخلاق، فالعربي في الجاهلية كان على جانب من المفاهيم الأخلاقية القريبة من الفطرة، وقد تسلسل بعضها إليه من هدي الأنبياء عليهم السلام، وبعضها مما اتفق عليه في مجتمعهم، وكان جُمَّاع هذه الفضائل هي المروءة التي تقوم على دعامتين أساسيتين هما: الشجاعة والكرم، وكان العربي يضحي في سبيلها بكل شيء لأنها مناط فخره، ومعقد العز لديه، وقد فسرت المروءة بأنها كمال الرجولة، ومن المروءة الحلم والصبر والعفوعند المقدرة، وقرى الضيف وإغاثة الملهوف ونصرة الجار وحماية الضعيف وغير ذلك إلا أن العربي في الجاهلية عندما كان يتمسك بهذه الفضائل ويضحي في سبيلها كان يرمي إلى ارتفاع قدره وانتشار ذكره في قبيلته وغيرها من القبائل، ويخاف العار والاحتقار إن قصر أوتهاون في حق هذه المثل، ثم إن المقياس الخلقي الذي كان في الجاهلية هوالعادات والتقاليد التي سنها الآباء والأجداد، ومعالمها هي سيرة ذوي الأحلام والنهى في القوم، فكان الناشئة يتأثرونها، ويعتبرونها ميزانا يميزون به الرَّشَدَ من الغي، والباطل من الضلال ويلقن الكبار ذلك للأحداث والصغار.

وجاء الإسلام فأقر الكثير من هذه المكارم، قال r فيما رواه الإمام مالك في الموطأ: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق). لقد حدد r الغاية الأولى من بعثته، والمنهاج المبين في دعوته، فكأن الرسالة التي جاء بها الرسول r، وبذل جهدا كبيرا في مد شعاعها، وتجمع الناس حولها لا تنشد أكثر من تدعيم فضائل قومه، وإثارة آفاق الكمال أمام أعينهم حتى يسعوا إليها على بصيرة، ولما جاء الإسلام أقر كثيرا من الفضائل المعروفة، ولكن أعطاها صبغة جديدة، ونظمها تنظيما جديدا، فلم يعد كرم الرجل مثلا دافعه الرغبة في تحدث الناس عنه، والشجاعة لإظهار البطولة، وهما الدعيمتان الأساسيتين للمروءة بل أصبح القيام بالمكارم والفضائل امتثالا لأمر الله ورجاء ما عنده، قال تعالى في سورة الإنسان: ] إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا[ وأصبحت البطولة والشهامة في سبيل الحق والخير دون اعتداء
أوظلم، قال تعالى في سورة البقرة:
] وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين[  ولم يبق المقياس الخلقي مرجعه العادات والتقاليد التي سنها الآباء والأجداد، ومعالمها سيرة ذوي الأحلام والنهى في القوم، بل أصبح المقياس هوالقرآن الكريم من حيث إنه هدي رباني، وسيرة سيدنا محمد r وسلوكه من حيث هومطبق للهدي القرآني تمام التطبيق. أخرج الإمام أحمد ومسلم في صحيحه وأبوداود وغيرهم أن عائشة رضي الله عنها عندما سئلت عن أخلاق النبي r قالت: "كان خلقه القرآن". إنه قرآن مترجم إلى حركات، قرآن يمشي على رجليه.

عباد الله، إن حسن الخلق لا يؤسس في المجتمع بالتعاليم المرسلة، أوالأوامر والنواهي المجردة، إذ لا يكفي في طبع على الفضائل أن يقول المعلم لغيره: افعل كذا أولا تفعل كذا، فالتأديب المثمر يحتاج إلى تربية طويلة ويتطلب تعهدا مستمرا، لهذا لن تصلح تربية إلا إذا اعتمدت على الأسوة الحسنة، فالرجل السيئ لا يترك في نفوس من حوله إلا أثرا سيئا، ولا يُتوقع الأثر الطيب إلا ممن تمتد العيون إلى شخصه فتقتبس نتيجة الإعجاب المحض به من خلاله وأدبه ونبله، وتمشي بالمحبة الخالصة في آثاره، وحتى يحصل الشخص التابع على قدر كبير من الأخلاق يجب أن يكون في متبوعه قدر أكبر وقسط أجل، فهذا رسول الله r المثل الأعلى في كل عصر ومصر إلى قيام الساعة، والنموذج الأسمى في الخلق الحسن، قال تعالى عنه في سورة القلم ] وإنك لعلى خلق
عظيم
[، وقال سبحانه وتعالى: ] لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا[

لقد فاز الصحابة رضوان الله عليهم بصحبته r فكان مثلا أعلى للخلق الذي يدعوإليه، بل لقد غرس بين أصحابه رضوان الله عليهم هذا الخلق السامي بسيرته العطرة قبل أن يغرسه بما يقول من حكم وعظات، كان العرب قبل الإسلام أعداء وبصحبتهم للرسول r أصبحوا أشداء على الكفار رحماء بينهم، قال تعالى فيهم: ] محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم[

فيا أيها الأحباب الكرام، إذا فاتتنا صحبة الرسول r فلا يفوتنا (تقصي هديه r في كتب الشمائل ومعرفة أخلاقه واتباع سنته r في عظائم الأمور ودقائقها، إذ السنة الشريفة كفيلة أن توحد سلوكنا وتجمعنا على نموذج واحد من الحركات والسكنات في العبادات والأخلاق، في السمت وعلوالهمة، فإنه لا وصول إلى الله عز وجل إلا على طريق رسول الله r، ولا حقيقة إلا حقيقته، ولا شريعة إلا شريعته، ولا عقيدة إلا عقيدته، ولا سبيل إلى جنة الله ورضوانه ومعرفته إلا باتباعه ظاهرا وباطنا، فذلك كله برهان عن صدقنا في اتباعه). بهذا عباد الله نحظى برحمة الله الواسعة والتي لا يدخلها إلا من توفرت فيه الشروط اللازمة والتي منها اتباع الرسول r قال تعالى في سورة الأعراف: ] ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يومنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي[ .

ومن آثار هذا الاتباع وحدة صفنا ووحدة سلوكنا ووحدة هدفنا وانسجامنا، عنذئذ يمكننا أن نكون أشداء على الكفار، ويمكن أن نحرر القدس الشريف بل نحرر البشرية جمعاء فنخرجهم من الظلمات إلى النور.

ألقيت في 17 رجب 1417 الموافق 29 نونبر 1996

الصفحة الرئيسية